Wednesday, February 11, 2009

في ذاكرتي امرأة
تأليف : مصطفى منبغ
أضواء خافتة، تتراءى من بعيد ، من نوافذ بيت يعانق سكون ليل بهيم، ارتعاشها يعكس خوف من بالداخل ويلات ذئاب بشرية جائعة قد تخطيء الطريق في بحثها عن سقف يحميها من عاصفة قادمة تجتاح المكان اجتياح جنون يحفر في مخ بائس يائس الرغبة في الانتحار، الجو الهادئ يبشر بانقلاب في اتجاه الرياح، ولا يدري أحد ما يقع من بعد ؟.
أضواء خافتة، أشياء مبهمة سحيقة المعني حتى على خفاش استأنس الظلمة حينما تحرك برغبة خلق من أجل قضائها لحكمة مقدرة، أشياء ترتكز على جدار من الصمت الرهيب تتحسسانه قدمي رجل تائه يسأل المصير عن الأمان يضخ به الدفء في دمه والثقة في نفسه حتى يستطيع مواجهة المجهول. دقة متناهية، خير وشر وبينهما الفراغ، فراغ هائل، حيث الشهوات تمرح في شغف وحبور لا تبالي بالأجهزة المعقدة. ويسأل الرجل نفسه
ــ لما تجاهلت عاقبة تصرفاتي ؟ . لما أنا شقي لهذا الحد ؟ . لما لا أصرخ وأصرخ حتى يسمع العالم كلماتي ويحكم ببراءتي ثم أنام وأستريح ؟، لما يا ليل هذا الهدوء ؟ ، متى أصل لتلك الأضواء الخافتة وقد رأيتها بالأمس أقرب إلي من اليوم وأكثر بعدا غدا ؟. لما الدموع إذن ؟ ، ما المناسبة ؟.أحبها، أجل أحبها، ومن أجلها سأبكي وأبكي ولتغرق الدنيا في بحر دموعي.
قرأ الضابط الورقة ثم أعادها إلى السيدة الواقفة أمامه في احترام ، ولسانه يتمتم بكلمات غامضة ، وبعد هنيئة من التفكير سأل المرأة
ــ متى غاب ؟
ــ وقت الحصاد
ــ هل كان يشتغل مزارعا ؟
ــ يزرع في دنيا الغموض ويفخر لأنه لا يقوى على العيش إلا وسط المزارعين وبين حقولهم
ــ وما دخل الحصاد ؟ ــ تلك قصة أتمنى أن تجد الوقت لأحكيها لك وبكل التفاصيل.
ــ ما دمت أبحث عن أي طريق يوصلني للرجل فكل وقتي لك
بصوت هادئ بدأت المرأة تحكي والضابط مشدوها يستمع لها بكل اهتمام
ــ كان أديبا يكتب القصة والرواية المسرحية ، دوما مع أوراق يخطط فوقها للناس هموم الدنيا ومتاعبها ، بأسلوب مشوق يتحول لسينريوهات أفلام تدخل على متتبعيها المتعة ، خاصة هؤلاء الأغنياء . أثناء راحته لا يكلم أحدا إلا طالبا ما يراه ضروريا للغاية. طالما اقتربت منه لأستنشق من أنفاسه عبير أخباره الدفينة، وحالما يفطن يتهرب في لباقة تحيرني حقا . طوال إقامتي بمنزله الريفي كخادمة ما شعرت إلا بالراحة التامة والسكينة الخارقة للعادة . حينما كان يسافر إلى المدينة أتطفل بمد اليد إلى أوراق يقذف بها لسلة المهملات. أحيانا أقرأ ما أتعجب له. أوراق تبكي بما كتب عن حرمان نفسي من أشياء لا أجد تفسيرا منطقيا لعا ، أو بصراحة ، كل ما يكتبه كان أكبر على عقلي وعلى فكري ، إذ لا أفلح في استيعاب كنهه . أذكر جيدا أنه رجع ذات يوم إلى البيت ، بعد غيبة أسبوع كامل ، تسلل ليفاجئني داخل حجرة مكتبه وأنا منهمكة على حل طلاسم سطر واحد كتبت فيه الجملة التالية
ــ لو سألتني عن السر قتلتك دون رحمة
حالما أمسك بكنفي شعرت أن خنجر لص مجهول ، اقتحم البيت ، غرز في ظهري ، لكنه وبسرعة مدهشة ابتسم مع التفاتي اللاشعوري نحوه ، وأجلسني على أريكة ما كان يرضى أن يجلسني بجواره فوقها أبدا وقال :
ــ عن ماذا تبحثين ؟
ــ لاشيء سيدي . أتيت لتنظيف حجرة المكتب كالعادة
ــ لست مغفلا، عن قصد كنت أترك لك هذه الأوراق ، ألا تجدينها سليمة في سلة المهملات ؟.
ــ والقصد من ذلك ؟
ــ تقرئين وتفهمين فتحكمين
ــ أوراق ؟ … سليمة ؟ … أحكم ؟ … ما هذه الألغاز يا سيدي ؟
ــ آه من المرأة، براءة في المظهر وجنون في الجوهر
ــ لا أفهم
ــ أنت مثلي ، لا أفهم حينما أريد ، مثلي تتعذبين في صمت و تضحكين للغير في غرور وكبرياء
ــ كيف عرفت يا سيدي ؟
ــ تقرأ على وجنتي المرأة الحقيقة وهي غارقة في النوم
ــ هل ؟
ــ لذي وسيلة كنت أستعملها في فتح الباب
ــ ولما تفعل ذلك ؟
ــ لأعرف الحقيقة
ــ حقيقة ماذا ؟
ــ لا أدري
ــ أي شرح يلج هذا العقل إن صدر عنك بلغة لا أتقنها
ــ ألا تذوبين فيما تصوره لك كلمات تلك الأوراق التي كلما غادرت البيت أسرعتي في إخراجها من سلة المهملات لتقرئينها بنهم ولهفة ؟
ــ خادمة سأبقى فهمت أم لم أفهم
ــ النتيجة ليست هي المهم. هناك البقاء لمن تصور عن غرور أنه المتحكم في الزمان ليتلذذ بما شاء
ــ لا أريد أن أفهم هذه المرة، حقيقة لا أريد
ــ على رسلك صغيرتي ، فلست المعلم ولا حتى التلميذ ، بل شخص يحضر ثم يغيب إلى أن تصل اللحظة ليبدأ الصراع بين الشفق ونور يبتعد رويدا رويدا ليعود
… هكذا كان ، أخاله مجرد إنسان يتكلم
يقاطع الضابط المرأة بشيء من العصبية
ــ ألا تقولين أنك مجرد خادمة ؟
ــ هو كذلك
ــ إذن كيف تسمحين لنفسك الغوص في خبايا الرجل وأدق قضاياه؟
ــ حينما تنطفئ شمعة والدنيا ظلام ، وعواء الذئاب لا تفتر خارج بيت منعزل ، والمطر مصحوب بريح تقهر أغصان المهيكل من الشجر، وبغثة تمتد نحوك يد تطرد عن جسدك ارتعاش الخوف ، فما عساك فاعل بها آنذاك غير البحث عن أدق التفاصيل قبل اتخاذ القرار
ــ أكنت تحبينه إلى هذه الدرجة ؟
ــ وما الفائدة إن كان لا يبادلني نفس الشعور ؟
ــ من يمد اليد لامرأة في سنك ، يخرجها من فزع ظلمة حلت بها إلى حيث الاطمئنان النفسي ، لا يفعل ذلك إلا إذا كان متعلقا بها
ــ وهل التعلق هو الحب ؟
ــ ما عساك تسمينه إذن ؟
ــ إحسانا ربما
ــ بل صدقة
تتعالى ضحكات الضابط الذي يتضح أنه نسي نفسه
ــ ربما يكون كذلك يا سيادة الضابط المحنك . ما لفرق بين الإحسان والصدقة والمعروف والخير ، إن كانت كلها تميز العاقل عن المخبول
ــ على العموم سأرحل الآن ، ومتى حضر ابلغيه أنني عائد ، وهذه المرة أريد الحقيقة هل تسمعين يا امرأة ؟ .
تتمة الرواية في الفصل القادم
مصطفى ميغ

No comments: